1. النهي عن لعن مرتكب الكبيرة

    قال ابن حجر رحمه الله في (ص:78) ذاكراً الفوائد من الحديث: "وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له" وهذا واضح والحمد لله، حيث أن هذا الرجل صحابي وشرب الخمر، فلم ينف عنه شرب الخمر صحبته، بل أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم أمراً زائداً عن مجرد الصحبة، وهو أنه يحب الله ورسوله، وهذه ليست في كل أحد من الناس، فهذه صفة لم يشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد، بل وجد في زمنه صلى الله عليه وسلم من الأعراب ومن ضعفاء الإيمان ومن أشباههم من لم ينل شرف هذه الشهادة، فمرتكب الكبيرة كما هو معلوم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر، ولا يخرج من الملة، فمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر فقوله مردود بأدلة كثيرة منها هذا الحديث، والذين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر هم الخوارج، وأيضاً قاربهم في ذلك المعتزلة، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لكن في الآخرة هو عندهم مخلدٌ في النار، فإذن هو عندهم كافر في الحكم والحقيقة، وإن كانوا لا يكفرونه في الاسم والإطلاق.
    يقول رحمه الله: "وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه" فلا تنافي بين ارتكاب النهي أو الوقوع في المحرم أو ارتكاب الكبيرة وثبوت محبة الله ورسوله، وهذا يمكن أن نعبر عنه بتعبير آخر فنقول: إنه يجتمع في القلب الواحد الطاعة والمعصية، ويجتمع فيه الإيمان والنفاق، كما تجتمع فيه السنة والبدعة، فهناك المبتدع الخالص، والمنافق الخالص، والفاجر أو العاصي الخالص الذي لا خير فيه مطلقاً، لكن أيضاً نجد من يجتمع فيه الأمران، فهذا الرجل (ابن نعيمان ) أو (نعيمان ) اجتمع فيه أمران: شرب الخمر وهو كبيرة ومعصية ولا شك في ذلك، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أصل عظيم عند أهل السنة والجماعة وهو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن هذا الرجل لا يخلو من أن يقال فيه أحد قولين: إما أنه فاقد الإيمان كما تقول الخوارج، وإما أن يكون كامل الإيمان كما تقول المرجئة، وهذا الحديث رد عليهما، فلا هو كامل الإيمان، إذ كيف يقال: إنه كامل الإيمان وقد شرب الخمر؟ وليس بفاقد الإيمان، إذ كيف يكون فاقد الإيمان وهو يحب الله ورسوله؟
    إذن لابد أن نقول: إنه ينقص إيمانه بقدر ما فيه من المعصية، ولكن له أيضاً من شعب الإيمان ما يكون إيمانه بها خيراً ممن هو أقل منه إيماناً، وأما نفي الإيمان عنه بالكلية فصريح الحديث يرده ويبطله.
  2. تكرار المعصية لا يستلزم نفي محبة الله ورسوله

    يقول ابن حجر رحمه الله في ذكر فوائد الحديث: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" فنقول: من أين أخذ الحافظ رحمه الله هذه الفائدة؟ أخذها من قول الصحابي: (ما أكثر ما يؤتى به)، فالرجل كان يشرب مراراً، وهذا موضع الاستدلال، وفي هذا الاستدلال نظر قال: "وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله" والمفروض أن يقال: لا تنتفي عنه محبة الله بالكلية، لكنها قد تنقص. والمقصود التحفظ على إطلاق الكلام، فلا تؤخذ هذه الفائدة على إطلاقها؛ بل لابد من التقييد، حيث إن هذا الصحابي كان يُغلب فيشرب الخمر.
    ثم يرده حب الله ورسوله زمناً عن شرب الخمر، ثم يُغلب؛ أي أنه ليس في حالة استقرار على شربها ولا اطمئنان إلى ذلك، ولو وصل الأمر به إلى أن يكون مدمن خمر مطمئناً إليها، فهذا ينتزع منه حب الله ورسوله والعياذ بالله، وتسقط عنه سيما المؤمنين؛ لأنه أصبح مدمن خمر وملكت قلبه بالكلية، وهذا لا يظن بهذا الصحابي.
  3. محبة الله ورسوله تستوجب حسن اتباعه صلى الله عليه وسلم

    إذن فالفائدة التي يمكن أن نستنتجها هي أن الإنسان مهما بلغ في الفضل والإيمان والتقوى يمكن أن يتكرر منه الذنب، وهذا ما وقع في حق ذلك الصحابي، ولأن حالته حالة خاصة ومخالفة للأصل، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، لكن العادة أن من يشرب الخمر مراراً لا يكون أهلاً لأن يثنى عليه أو يمدح، وهذا هو الأصل في من يشرب الخمر، لكن هذا الرجل ليس ممن أدمن، وإنما هو رجل فيه إيمان وفيه خير، إنما يغلبه شيطانه، ولا شك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يشربون الخمر في أول الإسلام، فقد كانت الخمر حلالاً، فربما يكون هذا الرجل ممن كان قد اعتادها قبل أن تحرّم، ولم يستطع الفكاك منها، وهذا ليس عذراً له، ولكنه يجعلنا نعلم أن اجتماع محبة الله ورسوله مع تكرار هذا الذنب له ما يفسر بالنسبة لحالته، إلا أنه لا شك عندنا أنه مع حبه لله ورسوله لا يمكن أن يكون مدمناً محباً راضياً عن نفسه وهو يفعل هذه الفعلة، لكنه يغلب عليها، فهذا دليل على أنه غير مصر، قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله))[آل عمران:31] ولا شك أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرط في حصول المحبة ودعواها، ولهذا سمى السلف هذه الآية آية الامتحان وآية المحنة، فكل إنسان يدعي المحبة، لكن حقيقتها: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وكذلك قال في آية الجهاد: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ))[التوبة:24] إلى أن قال: ((أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))[التوبة:24].
    ولو كان الإنسان محباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: فإنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقدم هذا المتاع أو المحبات أو العلاقات على الجهاد في سبيل الله، لكن قد يقع الضعف من الإنسان ويدخل فيه التقصير فيجتمع في نفسه هذا وهذا، فوعيد الله هنا يتعلق بالمحبة المطلقة الكاملة، وهذا الصحابي يحب الله ورسوله إلا أن هذه المحبة تنخفض وترتفع عند إتيانه هذه المعصية.
  4. معنى نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة

    قال رحمه الله: "ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية" نفي الإيمان عن شارب الخمر، {ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}. المقصود به -كما يقول الإمام- أنه لا يراد به زواله بالكلية، قال: "بل نفي كماله كما تقدم"، وهذا منطوق العبارة، ولو رجعنا إلى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في أول الصحيح في كتاب الإيمان، لعلمنا لماذا وقع في مثل هذه العبارة، فهو -ابن حجر رحمه الله- يرى أن الأعمال كمال للإيمان، وأنها شرط في كمال الإيمان، وهو في هذا رحمه الله متأثر بكلام النووي والقاضي عياض والقرطبي رحمهم الله جميعاً، لكنه مع تبحره وسعة علمه ونقله عن أهل السنة من كتاب الإيمان للإمام أحمد، ومن كتاب أصول أهل السنة والجماعة للالكائي، ومن كتاب الشريعة للآجري، ومن السنة لـابن أبي عاصم وغيرها، وقد أدرج هذه النقولات بأكملها -تقريباً- في ضمن هذا الكتاب العظيم الذي هو الفتح، إلا أنه في هذه النقطة تابع كلام هؤلاء الأئمة الشراح -على فضلهم وجلالتهم- الذين خفي عليهم الحق في هذه المسألة والتبست عليهم القضية، فجعلوا الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف أن المعتزلة يرون أن الأعمال شرط في ثبوت الإيمان، والسلف يرون أن الأعمال شرط في كمال الإيمان، وليس هذا مذهب السلف، فمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل، فالأعمال هي جزء من الإيمان.